سيرتي (زجاج مكسور: مذكرات وذكريات مفخخة بالطفولة)


إهداء إلى أبي فراس المجنون(رفيق الطفولة)
في الدرب بقايا قنينة زجاجية مكسورة
تناولت عنقها المنفصل رميت به في جدار بيتنا
وقبل أن أستمتع بتناثر أجزائه في الهواء
شعرت برطوبة تسيل من إصبعي
جرحني حدّ الزجاجة!
قبل أيام كنت قد أريتني إصبعك السبابة التي خاط الطبيب جرحها ..
تأملت سيلان الدم الأحمر الذي يذكّرني بدم الأضحية
الدم في يوم العيد لا يخيفني
ولكن الدم الآن يخيفني
يسيل من إصبعي السبابة
فربطها بخيط مهترىء
لا أستطيع أن أتخيل الطبيب يخيط أصبعي
كما تخيط أمي الشرخ بين فخذي بنطلوني
أتأمل إصبعي السبابة أتأمل بطنها الصغير في الأعلى من الجانب الأيمن..
فأتذكر إصبعك السبابة!
وأستغرب كلما تذكرت تلك الحادثة هذا التوافق والتشابه
في الجرح
في الإصبع
في حد ّزجاجة عنق القنينة
الحذر من الزجاج
عجيب هذا التضاد في الزجاج الذي يتصف بالشفافية والوضوح والنعومة
هذه الحادثة علمتني أن أحذر منه..
كنت أنزعج من بقايا الزجاج المتناثر في جوانب دروب قريتنا ..
والآن أتبسّم ضاحكا
عندما أنتبه أن أطفال أشقياء مثلي لم أرهم في لحظات فرح وبراءة هم الذين كسروا قنينات المشروبات الغازية
ليستمتعوا بتناثرها ولحظة ارتطامها بالأرض..
الزجاجة شبيهة بروح طفولتنا.
نحن كسرّنا الزجاج في طفولتنا
ونحن كسّرنا أروحنا عندما كبرنا..


 للبقية حديث



2


إهداء إلى أبي فراس المجنون(رفيق الطفولة)







لم نكن تهيأنا لذلك الصباح..!!


في إحدى صباحات الصف الأول الابتدائي


وقبل المنعطف الذي يوصل إلى طريق مدرسة عبدالله بن رواحة


صدمت سيارةٌ حافلةَ الهندي الذي كان يقودنا -أظن اسمه سليم - من الخلف..

باص أتذكره: قديم ويحوطه خط أخضر..



اصطدمت صدورنا الصغيرة بمساند الكراسي التي أمامنا


تلك الصدور الصغيرة التي كانت تخاف من عصا الأستاذ عبدالله


مربي صفنا (قسم ب) وتتمنى صداقة ولده الوسيم خالد!!


كانت تحمل أحلاما صغيرة أكبرها أن تلتقي في العصر في ملعب القرية لتعارك الكرة بشقاوة الكبار.






خرج الجميع من الحادث سالمين إلا أنت وأنا


جاءت أمهاتنا بهلع وفزع


رأيتُ أمك بجانبك على الرصيف وأنت تمسك صدرك


ورأيتني أفعل مثلك وأجلسوني بجانبك


لابد من أخذهم إلى مستشفى سمائل (قال أحدهم)


لمعت بهجة في صدري اندست خلف الوجع


ابتهجتُ . سنذهب سمائل المدينة حيث الدكاكين الكثيرة والمستشفى الكبير والناس والألعاب والمقاهي التي تصنع


السندوتش باللحم أو بالدجاج المفروم..


أوجاعنا كانت جسر بهجتنا ياللغرابة.. آه ياللغرابة


إنهم بخير : (قال الطبيب بعد أن فحص صدورنا)


لا أتذكر جيدا ، أظن أن أمي وأمك كانتا بصحبتنا


وعندما رجعنا ذهبتُ معك إلى بيتكم بصحبة أمك لا لشيء إلا ليعرفوا أني كنت مصابا مثلك في الحادث وليمنحونني جرعة من الاهتمام والحنان الذي كان يُقترّ علينا إلا عندما نتوجع..


والآن أستغرب عندما أقرأ دراسة علمية موثوقة تقول: "إن على الوالدين أن يضما ولديهما أربعة وعشرين ضمة في اليوم ما بين قبلة وحضنة ولمسة".. وأقارن باستغراب هذا بذلك التلهف لجرعة من الاهتمام والحنان..


من غيرنا يتذكر ذلك الصباح والشمس كان تتسلق الجبل تنتظر رؤوسنا الصغيرة المغطاة (بكمة)- يعلم الله ببساطتها وخفتها- في طابور الصباح.


في ذلك اليوم أخذنا إجازة بعد أن أصرت أمهاتنا على الطبيب أن يكتب لنا تلك الورقة ويختم عليها بختمه الأزرق الجبار الذي لا يقهر ولا يرد ولا يستهان به من قبل إدارة المدرسة أو مربي الفصل..


تلك الورقة التي صرنا نكبر ونحلم بها كلما أزهقتنا المدرسة بتكاليفها والآن كلما أزهقنا العمل بثقله ..
ولكن من يعطينا ورقة إجازة من كبد الحياة وإزهاقاتها



لا أحد غيرك.. أنت يا صديقي الموت.. انتظر حتى نشيب عسانا نمنح أطفالنا حنانا واهتماما حلمنا به في أوجاع طفولتنا وأفراحها..!

تكرم عيونك








3




إهداء إلى أبي فراس المجنون (رفيق الطفولة)



أمام الدكان أعقاب سجائر مرمية


كل عقب سيجارة بلونه البني الفاتح كان يقول لنا:


"أنا حرّ متمرد وأنت سجين الخوف"


صحيح أننا لم نكن نسمعه


لكننا كنا نسمع الخوف فينا من عقاب


الوالد


والوالدة ..التي كانت تخاف الوالد


تخافه أن يعيّرها أنها دلعتنا فضعنا وتعلمنا التدخين والسَكْرة!


لكننا كسرنا زجاج الخوف وأخرسنا فحيحه أتذكُر؟؟


ذات ظهيرة وجدنا علبة سجائر منسية ، بجوار الخندق المحفور لأنبوب الماء الموصول من (السيح) إلى (دْفُع الوادي).


تناولنا الولاعة وسيجارة واحدة وشفطناها


وقبل أن ننفث (الفوووووه) من صدورنا إلى أعلى كما يفعل محترفو التدخين.. خرجت سعلة قوية صدعت أجسامنا وسخرت منا!!


لم نفهم حينها أن تلك السعلة ضريبة الشجاعة والإقدام


رمينا الولّاعة وأرجعنا السيجارة في العلبة


وتراجعنا إلى حضن الخوف بسرعة.


والآن كلما مررت أمام دكان أو مقهى


ورأيت أعقاب السجائر البنية الفاتحة متناثرة


قلت لها:


" أنت سجينة الفوضى والغباء والتخلف..


والسجائر على أشكال مدخنها تقع..!


أما أنا يا خوفَ الطفولة فحرّ في التزامي بمبادئي.. حرّ بنقائي حرّ بصحتي..


أين أجد ذلك الخوف لأشكره ؛لأنه كان لنا سجنا جميلا في تلك السنوات المشعة بشمس الظهيرة..!


السيح ودفع الوادي: أسماء أماكن في قريتنا.



4


إهداء إلى أبي فراس المجنون (رفيق الطفولة)



أتذكر جارتنا أتذكر دلعها الطفولي


شعرها الأسود الذي كان حتى الهواء يغازله


وما أجمل تدويرة وجهها عندما تطل علينا من الباب لتنطلق كالمهرة في الفضاء تلعب بكرة الحرية..


جارتنا الفتاة التي تكبر عنا بقليل ..كانت


تلعب معنا الغميضة واللولوّة .. وما أحلى الدنيا وأبهاها عندما كنا نتحلق وتركض هي على رؤوسنا تردد :


"فات فات في ذيله سبع لفات .. والدبه نقعت في البير.. صاحبها صاحب خنزير"..


تخيل العصافير والفراشات وأغاني الفرح كانت تركض خلفها..



كانت تنسج دون وعي من قرون استشعارها في ذاكرتنا الصغيرة شباك الفتنة العمانية التي لم يحن موعد تكبيلها..


في الريف الطفلة تصبح امرأة عندما تكون في الأول الابتدائي.. هذا عندما كنا صغارا..


رياء.. اسمها .. كدت أنساه؛ لأنها رحلت إلى قرية


بعيدة أبعد من صوت طائر..


رحلت وتركت لي و لك ورود الذكريات في علبة منسية خلف خجل منا غير مبرر..



ضحكتَ علي عندما سألتُها أنا في بداية التحاقنا بالمدرسة:


هل تتزوجينني؟


ردت علي: من أنت حتى أتزوجك!!


وقالت كلاما أنت لم تسمعه؛ لأن صداه أزعجني في سن مراهقتي وصارت (هي) كل الفتيات في عيني أتوهمهن يقلن لي: من أنت حتى نلتفت إليك؟؟


سر صغير دعه يفوح لم أخبرك به أني بسببها


مزقت في مراهقتي كل صوري الشمسية والقمرية..


حظنا مع النساء يا رفيقي ليس له صلة قرابة بوسامتنا بل هي عقد الطفولة تؤلف قلوبنا بهن أو ترزحنا عنهن..!!


في تلك الظهيرة المتسيدة بشمسها الساطعة لم نكن نعرف أن أباها نائم على ظل جدار المسجد عندما كنا نصرخ لها (يا رب صبرنا صبر أيوب)..

ابتهجنا ابتهاجة العيد عندما أقبلت إلينا وأتى صبر أيوب وما يحمله من وجع بمفعول ساحر عليها ، هكذا توهمنا ،

ولكنها فاجأتنا عندما اتجهت لتوقظ أباها الذي لم ننتبه له فأطلقنا قدمينا للريح ..

سلمت بأعجوبة من عصا أبي

حيث شكانا أبوها لأبي..

بعد زمن حينما حملنا حقائبنا وشرّقت وغرّبت بنا سبل الحياة بعيدا عن القرية‘ وفي ساعة تشفّي في مقهى من مقاهي العشاق كتبت لها رسالة عتاب بلون النسيان الباهت:


"جفاؤك يا سيدتي

يركلني كحجر في قعر بئر

لاءاتك تجلدني

الأيام تسخر مني وأنا أعبرها

أعبر نهارها الممل بصراخ المدير

وليلها الصارخ بالوحشة..

أفتقد حنانك الباذخ

الذي صار أندر من كيس إسمنت

صندل حضورك.. وقرنفلة ضحكتك

عطر أنفاسك

سمّعيني

سمعيني

حلوى غنائك

آه يا وحدي

آه يا حزني

آه يا أمسي

نلتقي لنحب لنحب ونحَب"


تكرم عيونك

هناك تعليقان (2):

  1. لا عدمناك أبا فدوى ودمت جميلا ككتاباتك
    ذكريات وأوجاع جميلة نتشابه في بعضها
    مدونة رائعة أتمنى الاستمرار والتجديد

    ردحذف
  2. بليار وردة شكر أبا الشذى على مرورك الجميل العاطر على سيرتي ، وإذا كان إيليا ينادي وطن النجوم بحنين آسر
    وطن النجوم أنا هنا // حدّق أتذكر من أنا
    فإن طفولتنا هي وطننا قررت أن أحدق فيها بروحي عسى تعيد لي ولو بالخيال بعض عذوبتها وروعتها وبهجتها وخوفها العماني كذلك
    دمت..جميلا

    ردحذف